الكتابة مؤلمة، مثل إيغال السكّين في الجرح… مترجمون وباعة كتب يحاورون إيلينا فيرّانتي (4)

إنزا كامبينو، مكتبة توتيليبري، فورميا، إيطاليا

بينما أفكّر في أنّ الحقيقة الماثلة في حكاياتكِ هي المفتاح الشامل الذي يفتح لكِ قلوب قرّاء متنوّعين من حيث الثقافة والمنطقة الجغرافيّة (قد تقرؤكِ ميشيل أوباما، ومدير أعمال صينيّ، والمغنيّة مادونا، وفتاة تركيّة)، أودّ أن أسألكِ ما مدى تأثُّر هذا الأمر بالواقعيّة التي تتدفّق في رواياتكِ؟

الكتابة هي ممارسة خاصّة. لطالما كتبتُ بين نفسي وبيني، وكثيرٌ من النصوص لم تخرج يومًا من أدراجي. لكنّي كلّما قرّرتُ أن أنشر إحدى حكاياتي رجوتُ دائمًا أن تبتعد عنّي قدر المستطاع، وأن تسافر، وأن تتحدّث بلغات مختلفة عن اللغة التي كنت قد كتبتُها بها، وأن ينتهي بها المطاف في أوساطٍ وبيوتٍ لا تصلها أنظاري، وأن تبدِّل وسيلتها كأنْ تتحوّل من كتاب إلى مسرحيّة، فيلم، مسلسل تلفزيونيّ، قصّة مصوّرة. لطالما فكّرتُ هكذا ولم أتغيّر. كتابتي خجولة جدًّا أثناء عملي عليها، ولكنْ حين تقرّر أن تصبح كتابًا تتخلّى عن تواضعها وتغدو طموحة. أقصد أنّني لست كتبي، لاسيما أنّه ليس لديّ حياة مفترضة بحدّ ذاتها مثل كتبي. فلتصل الكتب إلى حيث بإمكانها الوصول، سأظلّ أكتب حسب أهوائي، كيف ومتى طاب لي. لأنّ استقلاليّتي ليس لها أيّ صلة باستقلاليّة كتبي، منذ اللحظة التي ترتدي فيها كتبي لبوس النشر وتنصرف.

لولا لارومبي، مكتبة رافايل ألبرتي، مدريد، إسبانيا

كثيرٌ من شخصيّات رواياتكِ تدور ما بين الحبّ والصداقة. أيّهما تفضّلين أن يكون إلى جانبكِ، الصديق أم العشيق؟

أفضّل عشيقًا قادرًا على صداقة عظيمة. من الصعب استيعاب هذه الخلطة في شبابنا، لكنّها تشقّ طريقها شيئًا فشيئًا عندما ننضج وإذا حالفنا الحظّ. ولطالما أعجبني العثور في المراسلات القديمة بين العشّاق على تعابير مثل “صديقي”، “صديقتي”. حتّى التوصيف “أختي”، الذي يظهر في الأدب الفروسيّ ويمتدّ لقرون، لم يبدُ لي إشارة على أفول الرغبة، بل على العكس.

سومالاينين كيرياكوابا، مكتبة، فنلندا

كيف وصلت ليلا ولينو إليكِ؟ لماذا أردتِ أن تروي حكايتهما على وجه الخصوص؟ هل ثمّة ما ترغبين أن يعرفه قرّاؤكِ عنكِ؟ وإلى أيّ مدىً تختلف الحياة في نابولي عنها في روما مثلًا؟ ما الذي يجعل نابولي فريدة إلى هذا الحدّ؟

لينو وليلا شبحان مثل كلّ تلك الأشباح التي تسكن الكتابة. تتجلّى في البدء من خلال رؤىً قصيرة وهاربة، تشبه قليلًا أناسًا لم نرهم منذ زمن أو أمواتًا. نستبقيها بجملٍ قليلة، نغلق عليها في دفتر، ثم نعيد قراءتها بعد مدّة. إن كانت الجمل تختزن قوّةً، عاودت الأشباح ظهورها، فنصطادها بمزيد من الكلمات. وهكذا دواليك: كلّما اكتسبت سلسلة الكلمات طاقةً، اكتسبت الرؤى الكامدة لحمًا وعظمًا، وتحدّدت معالمهما، وجرّت خلفها بيوتًا، وشوارع، ومناظر، ونابولي، المصيدة التي يتحرّك كلّ شيء في داخلها ويكتسب دفئًا، بحيث يبدو أنّكِ أنتِ وحدَكِ التي تستطيعين منح تلك الأشكال غير المحدّدة تعريفًا ومظاهر حياة حقيقيّة أيضًا. لكنّ الأمور لا تجري دومًا على ما يرام، بل غالبًا ما تتعطّل: الأشباح تخطئ العنوان، أو تزول بسرعة كبيرة، الكلمات تأتيكِ زائفة أو باهتة، المدينة تبدو مجرّد اسم، وإن سألكِ أحدهم بماذا تختلف عن روما، مثلًا، لا تعرفين إجابة، لاسيّما أنّكِ لا تستطيعين إيجاد الجواب في الجمل المائلة إلى الزراقيّة التي كتبتِها.

إيفا مازيكايتي، مترجمة، دار ألما ليتيرا للنشر، ليتوانيا

كثيرٌ من أبطال رواياتكِ ما إن يدخلوا سنّ الرشد حتى يغادروا المدينة التي ولدوا فيها. بأيّ مقياسٍ يؤثّر هذا الابتعاد عن نابولي في تطوّر الشخصيّة؟

المغادرة مهمّة لكنّها ليست حاسمة. لينو تغادر، أمّا ليلا لا تغادر نابولي أبدًا، لكنّ كليهما تتطوّران، ولديهما حياة تغصّ بالأحداث. أنا، سبق أن قلت، أشعر أنّني أقرب إلى خيارات إيلينا. لا ينبغي أن نهاب التغيّرات، لا ينبغي أن نخاف ما هو مختلفٌ عنّا. لكنّ البقاء لا يبدو لي خيارًا خاطئًا، ما يهمّ هو أنّ انغلاقنا دائمًا في مكانٍ ما لا يعمل على إفقار الأنا التي لنا. يعجبني الأشخاص الذين يستطيعون خوض مغامرات خطيرة حتى لو كانت مغامراتهم تلك تقتصر على الشارع من رصيف البناية التي ولدوا فيها إلى الرصيف الآخر. لقد تخيّلتُ ليلا على هذا الشكل.

إيفو يونكوف، مترجمة؛ ديسي ديمتروفا، بائعة كتب، كوليبري، بلغاريا

  • لماذا تواصلين العودة إلى ماضٍ أليم؟ هل الكتابة بالنسبة إليكِ علاجٌ ذاتيّ؟
  • ما رأيكِ بالأدب الذي يُدرَّس في المدارس الإيطاليّة؟ هل تعتقدين أنّه يعكس ديناميكيّات العالم الذي نعيش فيه؟ ما القيم التي ينادي بها؟ وهل تشاركين أنتِ أيضًا تلك القيم؟

لا، لم أعتبر الأدب يومًا شكلًا من أشكال العلاج. الكتابة بالنسبة إليّ شيءٌ آخر كلّيًّا: إنّها إيغال السكّين في الجرح، الأمر الذي قد يسبّب ألمًا كبيرًا. أنا أكتب مثل أولئك الأشخاص الذي يستقلّون الطائرة باستمرار لأسباب طارئة، لكنّهم يخشون عدم استطاعتهم على تحمُّل الطيران، ويذوقون العذاب طوال فترة التحليق، وعندما يهبطون يكونون سعداء مع أنّ الخوف كاد يحيلهم إلى خِرَقٍ بالية.

أمّا بالنسبة إلى المدرسة، فأنا أعرف القليل عن كيفيّة عملها حاليًّا. المدرسة التي تردّدتُ إليها كانت تحوِّل القراءات – التي وجدتُها في غاية الروعة عندما كبرتُ – إلى تمارين مملّة جدًّا لا هدف منها سوى الحصول على علامات. كانت تلك المدرسة تعلِّم الأدب بحيث تمحو متعة الخيال والتقمُّص. إن انتزعتم الطاقة التي تحتويها جملةٌ ما لتجزيئها بين هذه الصفة وتلك الصورة البلاغيّة، فلن تتركوا على الصفحة سوى تراكيب أبجديّة هزيلة وستصنعون من الشبّان، في أحسن الحالات، باعة دخان.

فلور سنكلير، بائعة كتب، سيفن واكس بووكشوب، سيفنواكس، بريطانيا

في روايةٍ تختزن الكثير من الأحداث وتبدأ بشيء يقال ولا يمكن التراجع عنه بعد، أثناء لحظة مفصليّة وحسّاسة من مراهقة جوفانّا – أتساءل عن وجود شيء ما يثير فيكِ الرغبة في العودة إلى الخلف والتحدّث إلى أناكِ المراهقة (أو لعلّه شيءٌ ما تريدين أنتِ أن تكون أناكِ المراهقة قد استرقت السمع إليه). شيءٌ ما قد غيَّرَ مجرى حياتكِ بالمقارنة مع الحياة التي عشتِها فعليًّا حتى الساعة، شيءٌ ما يمنحكِ الثقة والاندفاعة لتقومي بأمرٍ لم تقومي به في الماضي، أو لتتجنّبي ارتكاب أمرٍ تندمين عليه اليوم.

في حياتنا اليوميّة، ما فات قد فات. فلندع المراهقة جانبًا: بالنسبة إليّ فهي زمنٌ متوقّف ومفجوع. عندما بلغتُ سنّ الرشد، توخّيتُ دومًا أن أقول لإحدى المراهقات، حتى لو بدت لي سعيدة: هنيئًا لكِ، ما تزالين مراهقة. أعتقد أنّه كلّما انقضى سنّ المراهقة سريعًا كان ذلك أفضل. لكنّ في الكتابة عن المراهقة شغفًا كبيرًا. أرتاب من أنّ جزءًا صغيرًا من المراهقة يظهر في كلّ الكتب، أيًّا كان ما نرويه، لأنّها مرحلةٌ تضجّ بالرعود والصواعق والعواصف والغرق. فأنتِ في خلالها لستِ بطفلة ولستِ ببالغة، والجسد فيها يستغرق وقتًا أبديًّا لكي يقرّر أن ينزع عنه شكلًا ليتّخذ آخر. اللغة نفسها تبدو أنّها لا تتملّك نموذجًا صائبًا يليق بكِ، تارةً تهدلين كالأطفال وتارةً تعبّرين كامرأة ناضجة، وفي كلتا الحالتين يعتريكِ الحياء. الماضي لا يتغيّر في الواقع. ولكن عندما نكتب عن المراهقة، فإنّ ألوانها تتقلّب بما لا يعدّ ولا يحصى من التدرّجات. كلُّ تفصيل قد يجد لنفسه مرتبةً ويستحقّ شرفَ أن يكون له معنى، داخل الحكاية، بشكل فجائيّ. إن كتبتِ، فإنّ ذلك الزمن الراكد والمكبوت، الذي ننظر إليه من حافّة سنّ الرشد، يبدأ بالجريان، يتشكّل ويتشكّل من جديد، ويعثر على دوافعه.

أضف تعليق